[أخبار أئمة الحديث المشتغلين به تنفي وقوع الشك في صحة ما رووه وتلقوه بالقبول]
قال رحمه الله تعالى:[وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب، ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث].
قوله:[خبر الآحاد وإن كان يحتمل الصدق والكذب]، أي: قبل أن يحرر، وهذه قاعدة معلومة عند العقلاء، فمجرد خبر يأتيك عن أحد يحتمل الصدق والكذب حتى يحرر، فإذا حرر ثبت بالقرائن أو بصدق الراوي.
فيكون الخبر معلقاً بين الصدق والكذب قبل أن يحرر، فإذا حرر عرف هل هو صدق أو كذب، فكل خبر يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت بطرائق الثبوت المعروفة عند العقلاء، أو بالطرق الشرعية.
قال رحمه الله تعالى:[ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة الرواة، ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم يزك الإسلام وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث.
فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم؛ ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه، ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً.
كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك؛ لعد ذلك جهلاً كثيراً] يقصد بذلك أن الذين يؤخذ عنهم القول الفصل في مسألة خبر الآحاد هم أهل الحديث الذين عنوا به، حيث كانوا يفرقون بين الأحاديث بمختلف درجاتها، ويعرفون الصحيح من السقيم، وما الذي يعتمد عليه في الدين وما الذي لا يعتمد عليه، ومصداق قول الشارح أنا لا نعرف من أئمة الحديث الكبار المعتد بهم المقتدى بهم في الدين من يتردد في قبول خبر الآحاد إذا ثبت بسند صحيح، بل يتورعون عن الكلام فيه أشد التورع، ولا يجرؤ أحد من أئمة الحديث الكبار على ذلك؛ لأنه عرف مسالك القبول في الحديث من عدمه، فما نعرف أن أحداً منهم يتردد في الحديث مثل تردد الذين ليس لهم علم بالحديث، فلذلك هذا القول لم يقل به -فيما أعلم- أحد من أئمة الحديث المعتد بهم، إلا أنه قد يوجد من أئمة الحديث من قال ذلك بسبب نزعته، فهذا النوع تغلب عليه النزعة إلى مذهبه المخالف، من حيث يشعر أو لا يشعر، أما الذين لا ينتمون إلى الفرق ولا إلى الجماعات -بمعنى: ليس لهم مناهج تخالف مناهج أهل السنة- فلا يعرف أن منهم من تردد في هذه المسألة، وهي أن الحديث إذا ثبت بسند صحيح وجب قبوله في الاعتقاد والعمل، ولا يفرقون بين العقائد والأعمال، ولا يقولون بأنه ظني.
وقد يتفلسف بعض المتكلمين فيقول: إني أقصد أنه ظني في أصل منشأ الخبر، لكن هذا ينبغي أن لا يقال في الأحاديث، فإذا صح أن نقول في أخبار الناس: إن الأصل فيها الظنية حتى تثبت؛ فلا يصح أن يقال ذلك فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه أهل العلم المختصون: إنه صحيح يجب قبوله بدون تردد، ولا يعرض لهذه الأوهام التي قد تصح في غير الوحي.