للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: {ياأبت} [مريم: ٤٢] وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول: يا أبي، إلا أنهم يحذفون ياء المتكلم ويُعوِّضون عنها بالتاء، فلماذا؟ قالوا: لأن (أبت) لها مَلْحظ دقيق، فهو يريد أنْ يُثبت أنه وإنْ كان أباً إلا أن فيه حنان الأبوين: الأب والأم. فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الآخر؛ لذلك نجدها لا تُقال إلا في الحنانية المطلقة (يَا أَبَتِ) كما لو ماتتْ الأم مثلاً، فقام الأب بالمهمتين معاً، وعوض الأبناء حنان الأم المفقود.

وقوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: ٤٢] يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدَبُ الدعوة، حيث قدَّم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يُشعِر أباه بالنقص، أو يُظهِر له أنه أعلم منه.

{لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: ٤٢] نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية: لِمَ تعبد الشيطان، بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة، وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته، وأبان عناصره، وكشف عن حقيقته: لا يسمع ولا يبصر، ولا يُغني عنك شيئاً، فهذه الصفات لا تكون في المعبود، وهي العِلَّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام.

لأن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في أَمْره ونَهْيه، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر، بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيِّ شيء نهتْهُم؟ وماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقَّ العبادة؟ لا يوجد شيء من هذا كله، إذن: فعبادتهم باطلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>