ولقائل أن يقول: أليس في ذلك الأمر إشكالٌ واضح؟ . لقد ادّعى بعض أتباع عيسى أنهم أبلغوا من عيسى أن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله. فكيف يطلب لهم عيسى المغفرة في هذه الآية.
ونقول: إن عيسى لم يقل: «يا رب اغفر لهم» ولكنه قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي أن عيسى قد ترك الأمر لطلاقة المشيئة الإلهية، وهو كرسول من عند الله يعلم أن رحمة الله سبقت غضبه، وأن له سبحانه طلاقة القدرة، فلا قدرة تقيده فطلاقة المشيئة موجودة. وهم عباد الله باختيارهم.
إننا نعرف أن كل خلق الله هم عبيد الله. ولكن المطيعين لله والمؤمنين به خاصة هم عباد الله. إذن فالخلق نوعان: عباد الله ذهبوا لله إيماناً ومحبة وطاعة، والنوع الثاني هم العبيد الذي يُقهرون لقاهرية سيدهم، وحتى الكافر لم يكفر رغما عن الله. بل كفر بما آتاه الله من قدرة اختيار في أن يفعل أو لا يفعل، وكان الحق قادراً على أن يخلق خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به الله. وقد فعل الحق ذلك مع الملائكة.
لكن قدرة القهر تثبت لله صفة القهار على المقهور ولا تثبت صفة المحبة، فالمحبة تأتي من أن يكون المخلوق مختاراً أن يؤمن أو أن يكفر، ثم يختار الإيمان. إنه بذلك آمن بالمحبة لا بالقهر. وهكذا يريد الله خلقه المؤمنين به. إن كل الوجود - ما عدا الإنسان - مقهور، ولا يقدر على المعصية: الشمس، والقمر، والمطر، والهواء، والسحاب وكل ما في الكون مقهور لله.
إذن لو أراد الله خلقاً مقهورين على الإيمان به ما استطاع أحد من خلقه أن يكفر به، ولكن الحق أراد أن يثبت صفة القهر فيما دون الإنسان، أما في الإنسان فقد خلقه الله مختاراً بين الكفر والإيمان حتى يأتي بعض من العباد ليصنعوا ما يحبه الله ويرضاه ويتبعوا منهج الله، وهم يعلمون أن الله لم يكلفهم ما لا طاقة لهم به. فلا يكلف - سبحانه - أحداً بأن يموت أو يمرض، ولا يكلف فاقد آلة الاختيار وهي العقل، ولا يكلف من لم يبلغ رشد العقل؛ لأن التكليف للإنسان لا يتم إلا بوجود