والكافر من هؤلاء إنما ينأى عن مطلوب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يريد أن يهتدي، ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن الإيمان، فكأنه ارتكب جريمتين: جريمة كفره، وجريمة نهي غيره عن الإيمان.
لقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به، لذلك أوصى بعضهم بعضاً ألا يسمعوا القرآن، وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجاً يحول بين السامع للقرآن وتدبره. {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت: ٢٦] .
إنهم واثقون من أن القرآن يقهرهم بالحجة ويفحمهم بالبينات، وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه حلاوة وطلاوة تستل من قلوبهم الجحود والنكران. وكأنهم بذلك يشهدون أن للقرآن أثراً في الفطرة الطبيعية للإنسان، وهم أصحاب الملكة في البلاغة العربية. ومع ذلك ظل الكافرون على عنادهم بالرغم من عشقهم للأسلوب والبيان والأداء. ولم يكتفوا بضلال أنفسهم، بل أرادوا إضلال غيرهم، فكأنهم يحملون بذلك أوزارهم وأوزار من يضلونهم، ولم يؤثر ذلك على مجرى الدعوة ولا على البلاغ الإيماني من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ ذلك أن الحق ينصره على الرغم من كل هذا؛ فهو سبحانه وتعالى القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا