ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى:{ياأيها الذين آمنوا} إنما يدل على أن ما يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بالله، وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم؛ لأن الله لا يكلف من كفر به، إنما يكلف الله من آمن به، ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين الإيماني فهو أهل لمخاطبة الله له، فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له: يا من آمن بي إلها حكيما قادرا مشرعاً لك، أنا أريد منك أن تفعل هذا الأمر.
إذن الإيمان هو حيثية كل حكم، فأنت تفعل ذلك لماذا؟ لا تقل: لأن حكمته كذا وكذا. لا. ولكن قل: لأن الله الذي آمنت به أمرني بهذه الأفعال، سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها، بل ربما كان إقبالك على أمر أمرك الله به وأنت لا تفهم له حكمة أشد في الإيمان من تنفيذك لأمر تعرف حكمته.
ولو أن إنساناً قال له الطبيب: إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا، وبعد ذلك امتنع عن الخمر، صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة لله، لكن هل هو امتنع لأن الله قال؟ لا، لم يمتنع لأن الله قال، ولكنه امتنع لأن الطبيب قال، فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب الطبيب. أما المؤمن فيقول: أنا لا أشرب الخمر؛ لأن الله قد حرمها، ولماذا انتظر حتى يقول لي الطبيب: إن كبدك سيضيع بسبب الخمر، فالرحمة هي ألا يجيء الداء.
إن الحق يقول:{ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} أي أنا لا أطلب منكم