ولسائل أن يقول: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان، فلماذا كان الإلقاءُ بدايةً؟
جعل الله الإلقاء فتنةً ليختبر الناس، وليُميِّز مَنْ ينهض بأعباء الرسالة، فهي مسئولية لا يقوم بها إلا مَنْ ينفذ من الفتن، وينجو من إغراءات الشيطان، ويتخطى عقباته وعراقيله؛ لذلك قال تعالى عنهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: ١١٠] .
وما تبوأتُم هذه المنزلة إلا لأنكم أهلٌ لحمْل هذه الأمانة، تمرُّ بكم الفتن فتهزأون بها ولا تزعزعكم؛ لذلك قال تعالى:{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}[الحج: ٥٣] أي: نفاق، فإنْ تعرَّض لفتنة انقلب على وجهه. يقول كما يقولون: سحر وكذب وأساطير الأولين.
وكذلك فتنة {والقاسية قُلُوبُهُمْ}[الحج: ٥٣] وهم الذين فقدوا لين القلب، فلم ينظروا إلى الجميل عليهم في الكون خَلْقاً وإيجاداً وإمداداً، ولم يعترفوا بفضل الله عليهم، ولم يستبشروا به ويأتوا إليه.
ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه، ويركن إليهما؛ لأنه ذاق حنانهما، وتربَّى في رعايتهما، فإنْ ربَّته مثلاً المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها، ويألف حضنها، ولا يلتفت لأمه، لماذا؟ لأنه نظر إلى الجميل، من أين أتاه، ومَنْ صاحب الفضل عليه فرقَّ له قلبه، بصرف النظر مَنْ هو صاحب الجميل.
فهؤلاء طرأوا على كَوْن الله، لا حَوْلَ لهم ولا قوة، فاستقبلهم بكل ألوان الخير، ومع ذلك كانت قلوبهم قاسيةً مُتحجِّرة لا تعترف بجميل.