مسخر فيها، لا تستطيع مثلا أن تتحكم في يوم ميلادك، ولا في يوم وفاتك، ولا فيما ينزل عليك من الأحداث الخارجة عنك، ولا فيما يدور من الحركة في بدنك، كل ذلك أنت مسخر فيه فلا تنفلت من قبضة ربك. ولكنك مختار في أشياء.
ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناساً على أن تكون كما يريد، وكما يحب، وتلك صفة القدرة؛ لأن صفة القهر تفيد السيطرة. فإذا ما ترك جنساً يختار أن يؤمن، ويختار ألا يؤمن، وإن آمن يختار أن يطيع ويختار أن يعصي، فهذه تثبت المحبوبية لله سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة الله على المعصية.
ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه لا يخضع القلب. فأنت تستطيع أن تهدد إنساناً بمسدس وتقول له:«اسجد لي» فيسجد لك، لكنك لا تستطيع أن تقول له وهو تحت التهديد «أحبني» . فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا الإيمان بالاختيار، ويترك لنا الطاعة والمعصية اختياراً، ليعلم من يأتيه حباً ومن يأتيه قهراً.
والعالم كله يأتي لله قهراً. وأنت أيها الإنسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها. ومن هنا ثبتت لله تعالى القدرة. وبقى أن تثبت له الحب. والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب. ونحن قد سبق لنا أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والآخر اسمه سعيد، سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائلا:«يا سعد» فهل لسعد ألا يجيء؟ لا.
لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية، وعندما يناديه فهو يأتيه.
إذن، أيهما يحبه، الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن، فمن كرامة الإنسان أن يثبت لله صفة المحبة إن آمن بالله؛ لأنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعاً ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر به، ولو شاء أن يكون مطاعاً دائماً ما استطاع واحد أن يعصيه أبداً. ولذلك قلنا: إن إبليس كان عالماً حينما قال أمام الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: ٨٢]