أو: أن {مِنْ. .}[النور: ٣٠] هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله، وسبق أن تكلمنا عن (مِنْ) بهذا المعنى، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بُدّ أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً، ونحيل القارئ عليها.
قلنا: فرق بين قولك: ما عندي مال، وقولك: ما عندي من مال. ما عندي مال، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال.
فالمعنى هنا:{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .}[النور: ٣٠] يعني: بداية مَا يُقال له بصر، ولو لمحة خاطفة، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر.
وقلنا: إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل، قلنا: لو مررتَ ببستان فرأيتَ به ورده جميلة، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها، هنا يتدخل الشرع يقول لك: قِفْ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك.
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده، وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يستسمحنا فيه، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد.
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له: انظر كما تحب واعشق كما شئت، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك: حرام. لماذا؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً.