ومعنى:{عَن جُنُبٍ}[القصص: ١١] من ناحية بحيث لا يراها أحد، ولا يشعر بتتبعها له، واهتمامها به. ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامري:{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ}[طه: ٩٦] أي: رأى من حيث لا يطَّلِع أحد عليه.
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذتْ الأمر من أمها {قُصِّيهِ}[القصص: ١١] فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط {عَن جُنُبٍ}[القصص: ١١] مما يدلُّ على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه، وإن لم تُكلَّف بذلك، وهذا من حكمة المرسَل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح.
ما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى:
إذَا كُنْتَ في حَاجةٍ مُرْسِلاً ... فأَرسِلْ حَكيماً ولاَ تُوصِهْ
وقوله تعالى:{عَن جُنُبٍ}[القصص: ١١] يظن البعض أن جنب يعني قريب مني، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى الجنب ألاَّ تكون في مواجهتي، لذلك يقول تعالى:{والجار ذِي القربى والجار الجنب}[النساء: ٣٦] إذن: الجار الجنب مقابل الجار القريب، فمعناه الجار البعيد.
فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكاناً بعيداً منه، حتى لا يفطن أحد إلى متابعتها له.
ومن ذلك قولنا:(فلان تجنّبني، أو فلان واخد جنب مني) أي: يبتعد عني، إذن: البعض يفهم هذه الكلمة على عكس مدلولها.
ألاَ ترى لقول إبراهيم عليه السلام:{واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}[إبراهيم: ٣٥] وقوله تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور}[الحج: ٣] فالاجتناب يعني: الابتعاد.