وفَرْق بين المعنيين:{حُسْناً ... }[العنكبوت: ٨] أي: أوصيك بأنْ تعملَ لهم الحُسْن ذاته، كما تقول: فلان عادل، وفلان عَدْل، فوصَّى بالحسْن ذاته. أما في {إِحْسَاناً ... }[الأحقاف: ١٥] فوصية بالإحسان إليهما.
لكن، لماذا وصَّى هنا بالحُسْن ذاته، ووصَّى هناك بالإحسان؟
قالوا: وصَّى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال:{وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ ... }[العنكبوت: ٨] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكَّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ لا مجرد الإحسان؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف.
أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برِّهما الإحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً ... }[لقمان: ١٥] .
والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة إيضاح لأصل الوجود، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان، فكذلك ومن باب أَوْلى يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود.
فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لأنه سبحانه الخالق الحقيقي، أما الوالدان فهما وجود سببي.
هذا إيناس بالإيمان، بيَّنه تعالى في قوله:{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً ... }[النساء: ٣٦] لأنهما سبب الوجود الجزئي، والله تعالى سبب الوجود الكلي.