ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي، ولا يقول مهاجرة؛ لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه، لكن هنا قال في الفعل: هاجر. وفي الاسم قال: هجرة ولم يقل مهاجرة.
وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب، لا دار الإيمان، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما وجَّههم إلى الحبشة بالذات قال:«لأن فيها ملكاً لا يُظْلم عنده أحد» .
وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بُسِطت له خريطة الأرض كلها، فاختار منها هذه البقعة؛ لأنه قد تبيَّن له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته، أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، بدليل ما رأيناه من مواقف الأنصار مع المهاجرين.
وهنا يقول إبراهيم عليه السلام:{إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ... }[العنكبوت: ٢٦] فالمكان إذن غير مقصود له، إنما وجهة ربي هي المقصودة، وإلا فَلَك أن تقول: كيف تهاجر إلى ربك، وربك في كل مكان هنا وهناك؟
فالمعنى: مهاجر امتثالاً لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلاً، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛ لأنه