إذن: إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لأن الخبر يأتي من المتكلم، أمّا الإقرار فمن السامع، وأنت لا تُلِقي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وَفْق ما تريد.
فمعنى {وَمَنْ أَظْلَمُ ... }[العنكبوت: ٦٨] لا أحد أظلم، والظلم: نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره، والظلم قد يكون كبيراً وعظيماً، وهو الظلم في القمة في العقيدة، كما قال سبحانه:{إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: ١٣] .
وقد يكون الظلم بسيطاً هيِّناً، فالذي افترى على الله الكذب، لا أحدَ أظلم منه؛ لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هيناً، لكنه افترى على مَنْ؟ على الله، فكان ظلمه عظيماً، ومن الحمق أن تفتري على الله؛ لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل، وأنْ يبرهن على كذبك، ويستطيع أن يدحرك، وأن يُوقفك عند حدِّك، فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.
وقلنا: إن الافتراء كذب، لكنه متعمد؛ لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه، إنما الواقع خلاف ما يعلم، لذلك عرَّف العلماء الصدق والكذب فقالوا: الصدق أنْ يطابق الكلامُ الواقعَ، والكذب أن يخالف الكلامُ الواقعَ، فلو قلتُ خبراُ على مقتضى علمي، ولم أقصد مخالفة الواقع، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس بكاذب.
وقوله سبحانه:{أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ ... }[العنكبوت: ٦٨] فيا ليته افترى على الله كذباً ابتداءً، إنما صعَّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقٍّ فكذَّبه، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب