ومن ذلك قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ... }[الأنفال: ١٧] فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة؛ لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً، فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لأنه فعل فِعْل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره.
كذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ... }[الأنفال: ١٧] هذه الحفنة؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.
ونلحظ في قوله تعالى:
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}[الروم: ٦] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا: لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.
والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب:(الديب بلع منجل، فيقول الآخر: ساعة خراه تسمع عواه) .
واقرأ قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}[آل عمران: ١٤] .