سبق أنْ قُلْنا: إن المشاعر والإدراكات والمواجيد والعقائد التي تستقرُّ في النفس، هذه المظاهر الشعورية تتكون على مراحل ثلاث: آلة تدرك، ووجدان يستقبل، إما بالمحبة، وأما بالكراهية، ثم نفس تنزع، ومثَّلْنا لذلك بالوردة تراها في البستان جميلة نضرة، وتشُمُّ رائحتها زكية عطرة، فهذا إدراك بحاسة البصر وحاسة الشم، نتج عنه إعجاب ومواجيد، يترتب عليها أنْ تمدَّ يدك لتقطفها، وهذا هو النزوع.
والشرع لا يتدخل، لا في الإدراك، ولا في الوجدان، إنما يتدخل في النزوع، فَلَك أنْ ترى جمال الودرة كما تشاء، ولك أنْ تشمَّ عبيرها، لكن إن امتدَّتْ يدُكَ إليها قُلْنا لك: قف: أَهِي حَقٌّ لك؟ إنْ كانت حقك فَخُذْهَا، وإلا فهي مُحرَّمة عليك لأنها ليَستْ مِلْكك، وليس في هذا حَجْراً على حريتك؛ لأن الذي قيَّد حريتك في الاعتداء على مال الغير قيَّد حرية الآخرين في الاعتداء عليك، فأعطاك قبل أنْ يأخذ منك إذن: فالشرع في صالحك أنت.
نقول: الشرع لا يتدخل إلا عند مرحلة النزوع، إلا في علاقة الرجل بالمرأة والنظر إلى جمالها، فإنه يتدخل فيها من بدايتها، فيحظر عليك مجرد الإدراك، لأنك حين ترى جمال المرأة، وربما كانت أجمل من امرأتك أو لم يسبق لك الزواج، فإنك تُعجب بها.
وهذا الإعجاب لا بُدَّ أنْ يدعوك إلى النزوع، فكيف تنزع في هذه الحالة؟ والنزوع في هذه المسألة له شروط: أولها أنْ تأتيه من باب الحلال، فإنْ لم تكُنْ قادراً على باب الحلال، فإما أنْ تعفَّ نفسك، وإما أنْ تعربد في أعراض الآخرين، لذلك تدخَّل الشرع في هذه المسألة من أولها، ولم يتركك حتى تقع في المحظور وتنزع فيما لا يحلُّ لك؛ لأن المرأة الجميلة لا شكَّ تهيج في الرجل معاني خاصة.