الله واحدا، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية.
والحق يقول لمريم على لسان الملائكة:{يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة {لِرَبِّكِ} تعني التربية، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} و {واسجدي} أي بَالِغِي في الخشوع، والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع.
لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر الحق يصدر لمريم {واركعي مَعَ الراكعين} ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي:«لقد أمرني الله بأمر» أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى «
إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين}[المدثر: ٤٢ - ٤٣] .
إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} ولم يقل الحق:» مع الراكعات «؟ هذا هو السؤال.