هذه الجادة من الذي صنعها؟ إنه الحكيم. . فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية، ويقول له:«أنا تبت عليك» ، إنه - سبحانه - يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة، بل يريدون لكم ميلاً موصوفاً بأنه ميل عظيم. لماذا؟ . . لأن الإنسان بطبيعته - كما قلنا سابقاً - إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائناً فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائناً وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحداً أميناً ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة اليم، ووجد هذا الإنسان واحداً آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفاً مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفاً مثله فقط بل يريده أشد انحرافاً؛ ليكون هو متميزاً عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضاً حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيداً أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم:{وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}[يوسف: ٢٦] .
هم في السجن مع يوسف، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمراً جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا،