للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأمانة. فيجوز أن يعقد الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي، وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه لها.

ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون - والعياذ بالله - قد خربت ذمتك.

إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل الأمانة؛ لأنه «كان ظلوما جهولا» ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء، إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.

؟

إن التكليف محصور في «افعل» و «لا تفعل» ، فإن شئت فعلت في «افعل» ، وإن شئت لم تفعل في «لا تفعل» . وإن شئت العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء أدى وإن شاء لم يؤد.

لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان، فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟

<<  <  ج: ص:  >  >>