مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليُّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ويعتذر له فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن السِّدانة في أولاد عثمان أبداً.
وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر اسمه «العدل» . ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء الله أن يقول:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال:{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ} . فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛ لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} ، وكما أن آية أداء الأمانة عامة، كان لا بد أن تكون آية العدل عامة أيضاً.