قد يقول من لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟ إن كانت الأولى فالثانية ليست بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة.
نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. صحيح أن عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . ولكن هل صدر الآية متحد؟ لا، فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال:{وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . فكأن الإملاق موجود. . حاصل؛ لذلك شغل المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده. . ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه. لأنه هو نفسه فقير. فيطمئنه الله على رزقه أولا ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق من سيأتي:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . . لكن في الآية الثانية لم يقل ذلك. . بل قال {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} كأنه يخاف أن يفقد ماله ويصير فقيراً عندما يأتي الولد، وما دام قد قال:{خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه. . {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها. . تجد العلاقة مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذاً للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول الحق في آية في القرآن:{واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور}[لقمان: ١٧] .
وفي سورة ثانية يقول:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}[الشورى: ٤٣] .
ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. ففي الآية الأولى يقول:{واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي في المصائب التي لا غريم لك فيها. وما دام ليس لك غريم فيها. . فماذا تفعل؟ لكن إذا كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. ولذلك فانتبه لقوله الحق:{واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} يناسب الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي