وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} .
وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه.
الحق - إذن - يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات، من نقضهم للميثاق، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم للأنبياء بغير حق؛ لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر. فوجود «بل» دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد. والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر.
وفي آية أخرى قال عنهم:{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}[البقرة: ٨٨]
فقلوبهم ليست غلفاً، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم؛ لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات. ولماذا ذيل الحق الآية بقوله:{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس، وهو - كما عرفنا من قبل - «صيانة الاحتمال» . فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} ؟
إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً، ولكن عندما يجد الحق قد قال:{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع. وبعد ذلك يقول الحق:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ ... }