لقد كان للوحي صلصلة كصلصلة الجرس. وكأن هذا الصوت إعلان أن زمن وساعة الوحي قد جاءت فاستعد لها يا رسول الله. وعندما تعب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البداية، كان من رحمة الله به أن يجعل الوحي يفتر عنه، فيشتاق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للوحي بسبب حلاوة ما أوحي إليه، ويجعله هذا الشوق مستشرفاً للمتاعب. وعندما فتر الوحي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال خصومه: رب محمد ودعه وجَفاه. ولم يتذكروا أن لمحمد رباً إلاّ في هذه المسألة بعد أن اتهموه بالكذب ولم يمتلكوا الذكاء حتى يعبروا عن هذا الأمر بتعبير لا يتناقض مع موقفهم السابق منه. وحين رأى الحق الإجهاد الحاصل لرسوله جعل الوحي يفتر حتى تبقى حلاوة ما يوحَى به ويذهب التعب ويشتاق رسول الله إلى ما يوحى إليه.
إن الشوق وتلك المحبة يجعلان رسول الله لا يشعر بوطأة الألم المادي البشري، والإنسان منا حين يذهب إلى حبيب له يسير في الشوك والوحل ولا يبالي. إذن ففتور الوحي كان لتربية الشوق في نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستقبل الوحي، ولينتبه كل منا حين يقرأ قول الله سبحانه وتعالى:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى}[الضحى: ٤]
أي أن ما سيأتي لك من بعد ذلك سيسرك. ويقول الحق بعدها:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح: ١ - ٤]
وحين عرض الحق هذه المسألة بهذه الكيفية أراد أن يبلغنا: لا تظنوا أن رب محمد - كما يقولون - قد جفاه، لا، بل يعده ليستقبل أكثر مما جاء من قبل، فسنن الكون أمامكم، لكن كفرهم أعمى أبصارهم وبصيرتهم، ويقول سبحانه:{والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى}[الضحى: ١ - ٣]
وسبحانه يقسم بما شاء على ما شاء. والضحى هو ضحوة النهار وهي محل الحركة