وكذلك شأن الخلافات في الأمور الاجتهادية. وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول:«لا اجتهاد مع النص» فهذا لا يكون إلا مع النص الذي لا يحتمل الاجتهاد.
وليس كل التشريع هكذا؛ لأنه سبحانه أوضح ما لا يحتمل الاجتهاد، وأوضح ما يحتمل الاجتهاد؛ وحينما كلف الله عبده الإنسان بتكليفات، إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه، وكما أن تكوين الإنسان فيه أشياء هو مقهور عليها. فهناك الأحكام التي لا اختيار له فيها، وهناك أمور اختيارية، وما وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ، وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق والصواب. وكل ما وصل إليه طرف من الاجتهاد حق لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صوّب من صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة، وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل إلى مواقع بني قريظة. فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا.
ويقول الحق من بعد الأمر بمسح الرأس:«وأرجلكم» . وكان سياق النص يقتضي كسر اللام في «أرجلكم» ولكن الحق جاء بالأرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين. وغير معطوفة على «برءوسكم» وهذا يعني أن الرجلين لا تدخلان في حيز المسح؛ إنما تدخلان في حيز الغسل.
ونبه الحق بالحركة الإعرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه، ولكنَّها معطوفة على الأعضاء المطلوب غسلها. ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معا والممسوح معا، ويحدد الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} . والرجل تطلق على القدم، وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ. ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين.
وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف، ومن أطراف الأصابع إلى الكتف يطلق عليه «يد» أيضا، والمرفق في اليد هو الحد الوسط، و «الكعبين» هو الحد الأول في الساق؛ لأن الوسط بعد الساق هو الركبة.
إذن. ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد، وفي الرجلين يقف الأمر عند الحد الأول وهو الكعبان. هي - إذن - مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية.