هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر. ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى:{إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} . ويقول سبحانه في موقع آخر:{مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ}[المائدة: ١٩]
وعندما يقوم النحاة بإعراب «بشير» فهم يقولون: «إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد. إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد، فالإنسان يقول: ما عندي مال. وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به. وعندما يقول الإنسان» ما عندي من مال «ف» من «هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال. ولذلك ف» مِن «هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى. إذن» ما جاءنا من بشير «أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير.
وقد يحسب البعض أن» ما «هنا حرف زائد، ولكنا نقول: ما الأصل في الاشتقاق؟ .
إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر. ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل: «ضرباً زيداً» أي «اضرب زيدا» . ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل، وكذلك قوله الحق:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} .
مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل. ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر، فيصبح معنى القول:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} . إذن «ما» تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل. وبقيت «ما» لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن «ما» جاءت استفهامية للتعجيب. . أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد.