المتكلم من المخاطب أن ينقل إليه الفهم، هنا نقول: هل كان المتكلم لا يعلم الحكم؟ قد يصح ذلك في الحياة العادية. وقد نراه حين يقول إنسان لآخر:
من زارك أمس؟ فنكون أمام حالة استفهام عن الذي زاره، تلك هي حقيقة الاستفهام، لكن ما بالنا إذا كان الذي يتكلم ويستفسر لا تخفى عليه خافية، إنه - سبحانه - يطلب - منا أن نجيب على سؤاله:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} . وتلك عظمة الأداء.
وأضرب مثالاً آخر - ولله المثل الأعلى - عندما يأتيك إنسان ويدعي أنك لم تحسن إليه لأنه كان سجيناً مثلاً وأنت الذي أخرجته من السجن. فتقول له: من الذي ذهب ودفع عنك الكفالة وأخرجك من الحبس؟
إنك أنت الذي فعلت ولا تريد أن تقول له: لقد فعلت من أجلك كذا وكذا، ولكنك تريده هو أن ينطق بما فعلته له، ولا تقول ذلك إلا وأنت واثق أنه لن يجد جواباً إلا الاعتراف بأنك أنت الذي صنعت له كذا وكذا، وبذلك تصبح المسألة إقراراً وليس إخباراً.
{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} فالحق عالم أنهم حين يديرون رءوسهم في الجواب، لن يجدوا إلا أن يقولوا: يارب أنت أحسن حكماً. وهذا إقرار منهم وإخبار أيضاً. أما عند المؤمن فالأمر يختلف تماماً؛ لأن المؤمن بعترف ويقر بفضل الله عليه.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالذي يفهم أن حكم الله هو الأفضل هم القوم الذين دخلوا إلى مرحلة اليقين. ونعلم أن مراحل اليقين تتفاوت فيما بينها، فعندما يخبرك إنسان صادق في قضية ما فأنت تعلم هذه القضية. كأن يقول لك: لقد ذهبت إلى نيويورك. وهذه المدينة تقع على عدد من الجزر وبها عمارات شاهقة والعنف منتشر فيها. والناس تبدو وكأنها ممسوسة من فرط الهوس على الثروة. وحين تسمع هذا الصادق فأنت تأخذه على محمل الجد وتعتبر كلامه يقيناً وهذا هو علم اليقين، أي أنه إخبار من إنسان تثق فيه لأنه صادق.
وبعد ذلك يأتي هذا الإنسان ليوجه لك الدعوة، فتركب معه الطائرة، وتطير