ينفع الناس. إذن فكل غريزة إنما توجد من أجل مهمة، فإن خرجت عن مهمتها، فالشرع يتحكم ويقول: لا. إن هناك إطاراً يمكن أن تستخدم فيه الغرائز، والشرع إنما يأتي لا ليمحو الغرائز، ولكن ليعلِىَ من الغرائز ليستعملها الإنسان فيما ينفع لا فيما يضر.
ويقال في المثل العربي:«آفة الرأي الهوى» فإذا ما وقف اثنان أمام القاضي وأحدهما مظلوم والآخر ظالم فالقاضي العادل هو الذي يرفع الظلم عن المظلوم حتى وإن كان له هوى مع الظالم. ولذلك نجد الحق قد عصم رسوله فقال:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}[النجم: ٣] .
والسطحيون هم الذين لا يلتفتون إلى عظمة هذا الأداء البياني ويتساءلون: ما دام الحق يصوب لمحمد فكيف إذن لا ينطق عن الهوى. ونقول: أنتم لا تحسنون الفهم عن الله ولا عن رسول الله، فعندما صوّب الله لرسوله لم يكن الرسول قد خرج عن حكم إراده الله، ولم يعدل حكماً لله حسب هواه الشخصي، وإنما هو ببشريته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصل إلى حكم ما ويراه ثم ترى السماء تعديلاً له، فينطق محمد بالتعديل كما انزله الله.
ولم يخالف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه في أي أمر. وجاء كل تصويب لله في أشياء لم يسبق فيها لله حكم، وكان كل تصويب قد جاء لاجتهاد بشرى من رسول الله، ولم يكن في ذلك أي هوى.
وحين قال الحق:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} . إنما يبلغنا أنه لم يكن عند محمد حكم من الله فخالفه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتباعاً لهوى، فمعنى الهوى أن يكون هناك منهج ثم يعدل عنه، وكل التصويبات التي صوّبها الله جاءت في أمور لم يكن فيها حكم. ولهذا نجد تصويب الحق لرسوله يتسم باللطف، فيقول سبحانه:{عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين}[التوبة: ٤٣] .
وهذا العفو لم يكن نتيجة لمخالفة حكم من أحكام السماء، ولكن هو عفو سمح؛ لأن رسول الله أخذ بالاجتهاد البشرى في الأمور التي لم يكن فيها حكم الله، وهو قول الحق: