إذن ففي نزول القرآن كانت الأمور المكية التي تتعلق بالعقيدة الأساسية هي الظاهرة. وهي الاعتراف بألوهية واحدة تحكم الكون. أما في المدينة فد ناقش الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهل الكتاب في كل أمور الدين بعد أن استتب أمر التوحيد.
لقد كان هذا الترتيب منطقياً مع هذه الحقيقة. فقد كان في العالم موجتان اثنتان: موجة إلحاد، وموجة تغيير في منهج الله السماوي. ولذلك كانت قلوب المسلمين مع قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أهل الكتاب؛ لأنهم على الأقل يؤمنون بإله، وأن الإله يرسل الرسل ومعهم المنهج الإلهي والمعجزات الدالة على صدق رسالتهم، وحتى الذين انحرفوا من أهل الكتاب كانوا يتمسحون في هذا الكتاب المنزل إليهم بالرغم من أنهم حرفوه.
لقد وجدنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقف بجانب الروم عندما واجهوا فارس. وعندما هزمت الروم حزن المسلمون وفرح الكفار؛ لأن الروم كانوا أهل كتاب؛ إنهم كانوا نصارى، وكانت هزيمتهم تعني انهزام منطق السماء أمام منطق الإلحاد، لذلك حزن المسلمون، وفرح الكفار. وأراد الله أن يصور لنا الموقف، وأن يوجه قلوبنا إلى الذين يؤمنون أيضاً بأن هناك إلهاً حتى ولو كانوا قد أخطأوا في تصور هذا الإله وفي البلاغ عنه، أو أخطأوا في تأويل ما جاءت به الرسل فقال سبحانه:{الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله}[الروم: ١ - ٥] .
إنّ المسلمين يفرحون بنصر الروم على فارس؛ لأن الروم لهم علاقة بالسماء، والرسل، والمناهج، والوحي. وجعل الله الأمر واضحاً هكذا لكي يبين موقفنا وليجعلها إعجازاً لكتابه ولرسوله؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان موجوداً بمقر الدعوة وهو الجزيرة العربية، وليس عنده سفارات ولا مخابرات ولا مكتب حربي حتى يأتيه بالأخبار وينبئه عن استعدادات الروم التي تُجري لرد الهزيمة.