ويعرفون القول الفصل والرأي الصحيح ويميزون بين فنون القول: خطابةً، وكتابةً، ونثراً، وشعراً، والقول المسجوع، والقول المرسل، من العجيب أنهم يقفون أمام معجزة القرآن مبهوتين لا يعرفون من أمرهم رشداً، فمرة يقولون إنه سحر، ومرة يقولون: إنه كلام كهنة، وثالثة يقولون: إنه كلام مجنون.
والقرآن ليس بسحر، لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم، وليس القرآن كذلك بكلام كهنة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يتلق علماً من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس كذلك. ويعلمون أنه كلام رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، وها هوذا الحق يقول في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: ٢ - ٤] .
وقد أعد الله رسوله ليستقبل النبوة بقوة الفعل، لا بسفه الرأي، وله في إبلاغ رسالة ربه ثوابٌ لا مقطوع ولا ممنوع، وهو على الخُلق العظيم. والخُلُقُ العظيم - كما نعلم - هو استقبال الأحداث بملكات متساوية وليست متعارضة ولا يملك ذلك إلا عاقل. وقد شهدوا بخُلُق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكيف يأتي هذا الخلق العظيم من مجنون؟ وكيف يصدر السلوك المتصف بالسلامة والصلاح والخير من مجنون؟ كانت - إذن - كل اتهاماتهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تنبع من إصرارهم على الكفر، لا من واقع لمسوه، فكل ما قالوه في رسول الله هم أول الناس الذين شهدوا عكسه ولمسوا نقيضه.
وجاءوا - إصراراً على الكفر - يطلبون أية أخرى:{وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ ... }