لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال:{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} .
ولو نظروا إلى كلمة {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، فكلمة {أَعْلَمُ} تدل على أنه قد يمكّن الله بعضاً من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الذين واجههم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمر الدعوة، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا به بمجرد الإخبار؟ . لقد آمنوا بمجرد الإخبار؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، ولابد أن يكون مأموناً على خبر السماء؛ لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض، فكيف يكذب في أمر السماء؟
إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال: صدقت، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته، وقالت أول استنباط فقهي في الإسلام.
وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث، مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الأهواء. إنه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي، فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويعين على نوائب الدهر، وقال له: والله لا يخزيك الله أبداً.
إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله، وكل المقدمات مفاخر، كلها خلق عظيم، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء، التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو تدبير، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام. ولذلك نعرف السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لأنه ستمر به فترة لا يحتاج فيها إلى زوجة فقط. بل إلى ناضجة، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد فقه الإسلام؟
{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} ؟ ، وهم قد أصروا على ألا يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالاً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول.