وهكذا كان الموقف استكباراً واستلاءً. وقوله الحق:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ}[ص: ٧٥]
ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله:{مَا مَنَعَكَ} أي ما حجزك، وقد أورد القرآن هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة:{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} . وقال مرة أخرى:{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} . وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء ب «لا» النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود «لا» النافية. وقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن السجود. لكن {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء: إن «لا» هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن «لا» صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة «منع» ولأي أمر تأتي، وأنت تقول:«منعت فلاناً أن يفعل» ، كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي «منع» للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في {مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} ، وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: ١٢]
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجوداً معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو؛ لأن الملائكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد، ولكنه قال في الرد على ربّه: