والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقاً يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية - كما نعلم - توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادراً على إنجاب مثله، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان. أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ، والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه، وهذه عدالة الجزاء من الحق، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله، وبهذا يحرس رَبُّنا الكون بِقَيُّومِيَّتِه.
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقداً لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون به. وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم.
لقد قالوا ذلك على محمد ظلماً له، وبغَوْغَائِيَّة، وكل واحد يلقى اتهاماً ليس له من الواقع نصيب؛ لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات:{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ... }[سبأ: ٤٦]
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا: هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنَّ محمدَّا هو أكثر الناس أمانة، وكان الجميع يسمونه