إذن فلابد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لابد ألا ينتفع به، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا «هدى» فالواضع سينتفع به، ورأينا ذلك رأى العين؛ فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المذهب الشيوعي، والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع مذهب الرأسمالية، ومذاهب نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يُبرأ أحد من فلاسفة المذاهب نفسه من الهوى: الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد مَن يُشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط.
والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية؛ لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائماً، ونعدله.
إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لابد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى:{وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام: ١٥٣]
ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة، ولذلك أقول: افطنوا جيداً إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} . والقرآن في جملته «هدى» والفرقان هو أن يضع فارقاً في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل.