ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذلَّلَ لنا سُبُل الحياة. . وذلَّل لنَا ما ننتفع به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها. . فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير، ويتحكَّم فيه يُنيخه، ويُحمّله الأثقال، ويسير به كما أراد، في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحدٌ التحكم فيه. . وما تحكَّم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل الله له.
أما الثعبان مثلاً فهو على صِغَر حجمه يمثِّل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون الاقتراب منه، ذلك لأن الله سبحانه لم يُذلِّلْه لنا، فأفزعنا على صِغَر حجمه. . كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً. . كم هو صغير حقير، ومع ذلك يقضّ مضاجعنا، ويحرمنا لذة النوم في هدوء. . فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلِّل له البرغوث؟}
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا: إذا ذللتُ لكم شيئاً، ولو كان اكبر المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به، وإن لم أذلِّله لكم فلا قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً. . إذن: الأمور ليست بقدرتك، ولكن خُذْها كما خلقها الله لك.
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا. .}[النحل: ٦٩] .
ذلك أن النحلة تمتصّ الرحيق من هنا ومن هنا، ثم تتم في بطنها عملية طَهْي ربانية تجعل من هذا الرحيق شَهْداً مُصفَّى؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق، ثم تتقيؤه كما هو. . فلم يَقُلْ القرآن: من أفواهها، بل قال: من بطونها. . هذا المعمل الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس.