فالمسألة لم تُفاجئ رسول الله؛ لأنه عرفها حتى قبل أن يُبعث، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار، وعاد إلى السيدة خديجة فَزِعاً ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوف، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيكون مبعوث السماء إلى الأرض، وأنه نبيُّ هذه الأمة، وقال فيما قال: ليتني أكون حياً حين يُخرِجك قومك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:«أَمُخرجيّ هم؟» .
قال: نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئتَ به إلا عودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حَصَّن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي يكون على توقُّع لها، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ الانهيار، وأعطاه الطُّعْم المناسب للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادْلهَمتْ الخطوب، وضاق الخناق عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وما داموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا، هي فرصتهم الوحيدة، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها، ولا يؤخرون منها شيئاً، فإنْ أجَّل المؤمن بعض مُتَعِه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلامَ يؤجل الكفار مُتعهم؟
إذن: الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة.