للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سيدي لك علي كل يوم مثل هذا على أنك لا تطلبني في الليل، فكان يغيب كل ليلة ويأتي في الصبح بمثل ذلك، فلما كان بعض الأيام جاء بعض الجيران وقال: يا عبد الواحد بع غلامك فإنه نباش القبور.

فغمني ذلك، فقلت لهم: ارجعوا فأنا أحفظه في هذه الليلة، فلما كان بعد صلاة العشاء قام ليخرج، فأشار إلى الباب المغلق فانفتح، ثم أشار إليه فانغلق، وقصد الثاني ففعل مثل ذلك، ثم قصد إلى الباب الثالث ففعل مثل ذلك، وأنا أنظر، فخرج.

فتبعته ومشيت وراءه حتى بلغ أرضا ملساء، فنزع ثيابه ولبس مسحا (١) شعرا وصلى الفجر، ورفع رأسه إلى السماء وقال: هات أجرة سيدي الصغير، فوقع من السماء درهم، فأخذه وتركه في جيبه، فتحيرت في أمره ودهشت لحاله، وقمت فتوضأت وصليت ركعتين، واستغفرت اللَّه تعالى مما خطر ببالي، ونويت أن أعتقه، ثم إني طلبته فلم أجده.

فانصرفت حزينا، وما كنت أعرف تلك الأرض، فإذا بفارس على فرس أشهب (٢) فقال لي يا عبد الواحد ما قعودك ههنا؟ فقلت من شأن كذا وكذا. فقال: أتدري كم بينك وبين بلدك؟ قلت: لا. قال مسيرة سنتين للراكب المسرع، فلا تبرح من هذا فإنه يأتيك في هذه الليلة. قال: فلما جن الليل إذا به قد أقبل ومعه طرفوية (٣) عليها من كل الطعام.

فقال لي: كل يا سيدي ولا تعد إلى مثلها. فأكلت، وقام يصلي إلى الفجر، ثم أخذ بيدي، وتكلم بكلام لم أفهمه، وخطا معي خطوات فإذا أنا واقف على باب داري، وقال يا سيدي أليس قد نويت أن تعتقني؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعتقني وخذ ثمني مني، وأنت مأجور، ثم أخذ حجرا من الأرض فأعطانيه، فإذا به ذهب، ومضى الغلام وبقيت متحيرا على فراقي له.

ثم اجتمعت بجيراني، فقالوا لي: ما فعلت بالنباش؟ قلت: ذاك نباش النور لا نباش القبور، ثم حدثتهم بما شاهدته من الكرامات (٤)، فبكوا وتابوا مما خطر لهم


(١) المِسْح: الكساء من شعر، وثوب الراهب. جمعها: أمسح، ومسوح.
(٢) شهب، شهبا: خالط بياض شعره سواد، فهو أشهب، وهي شهباء.
(٣) الأطروفة: المُلحة والتحفة، والمستحدث المعجب، جمعها: أطاريف.
(٤) قال الشوكاني: إذا عرفت أنه لا بد للولي من أن يكون مقتديا في أقواله وأفعاله بالكتاب والسنة، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، فمن ظهر منه شيء مما يخالف هذا المعيار فهو رد عليه، ولا يجوز لأحد أن يعتقد فيه أنه ولي اللَّه، فإن أمثال هذه الأمور تكون من =

<<  <  ج: ص:  >  >>