للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مجلس في العفو والإعراض عن الجاهلين]

قال اللَّه تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)(١) وإذا كان هذا الأمر لأقرب الخلق لديه وأكرمهم عليه وأحبهم إليه فما ظنُّك بغيره؟ وقال تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (٢) وهو كالتفسير للإعراض، والمراد بالجميل الذي لا جزع فيه ولا عتب ولا كظم بل بحلم وسماح. وقال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (٣) فمن عفا وصفح غُفر له وجزاه وِفاقًا.

وقال تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤]. وقال تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)[الشورى: ٤٣]. أي فذلك شأن أهل العزم والكمال. والآيات في الباب كثيرة معلومة.

وروينا من حديث عائشة أنها قالت للنبي : "هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم


(١) سورة الأعراف (١٩٩).
(٢) سورة الحجر (٨٥).
أخبر تعالى نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به، كقوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾ [الزخرف: ٨٩]، وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال، وهو كما قالا؛ فإن هذه مكية، والقتال إنما شرع بعد الهجرة. [تفسير ابن كثير (٢/ ٥٧٣)].
(٣) سورة النور (٢٢).
نزلت هذه الآية في الصديق حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل اللَّه براءة عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب اللَّه على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه، شرح -وله الفضل والمنة- يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر وكان من المهاجرين في سبيل اللَّه، وقد زلق زلقة تاب اللَّه عليه منها وضرب الحد عليها، وكان الصديق معروفا بالمعروف، وله الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية قال الصديق: بلى واللَّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال واللَّه لا أنزعها منه أبدًا. [تفسير ابن كثير (٣/ ٢٨٤)].

<<  <  ج: ص:  >  >>