للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على وجهي فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثعالب (١)، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن اللَّه قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، إن اللَّه قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشَبين. فقال : "بل أرجو أن يُخْرِج اللَّه من أصلابهم من يعبد اللَّه وحده لا يشرك به شيئًا" (٢) أخرجاه.

الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة، والأخشب هو الجبل الغليظ. وفيه: أن أهل العفو والمتصف به سادة الأنبياء وهم أرفع الناس قدرًا وأعلاهم همة وأوفرهم كمالًا وأكرمهم طبعًا وأعزهم نفسا وأشرفهم رتبة، فطوبى لمن سلك سبيلهم واقتفى مآثرهم، والإعراض عن الكف في ذلك العظيم.

وروينا من حديثها أيضا: "ما ضرب رسول اللَّه شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلَّا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلَّا أن يُنتهك شيء من محارم اللَّه تعالى فينتقم للَّه تعالى" (٣) أخرجه مسلم. وما أحسن هذا الخلق العظيم.

وروينا من حديث أنس قال: "كنت أمشى مع رسول اللَّه وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق رسول اللَّه وقد أثرت بها حاشية الرِّداء من شدة جذبته ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال اللَّه الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء" (٤) أخرجاه. فانظر ما قابل الإساءة بها وهو الإحسان.


(١) أي لم أوطن لنفسي وأتنبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه إلا وأنا عند قرن الثعالب، لكثرة همي الذي كنت فيه. قال القاضي: قرن الثعالب هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير. [النووي في شرح مسلم (١٢/ ١٣٠) طبعة دار الكتب العلمية].
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (٤/ ١٣٩) ومسلم في صحيحه [١١١ - (١٧٩٥)] كتاب الجهاد والسير، [٣٩] باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٨٤٨)، والقاضي عياض في الشفاء (١/ ٢٥٥)، والزبيدي في الإتحاف (٩/ ٨٨).
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه [٧٩ - (٢٣٢٨)] كتاب الفضائل، [٢٠] باب مباعدته للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه للَّه عند انتهاك حرماته، وأبو داود في سننه (٤٧٨٦) كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر، وابن ماجه في سننه (١٩٨٤)، وابن أبي شيبة في مصنفه (٨/ ٣٦٨).
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه (٦٠٨٨) كتاب الأدب [٦٨] باب التبسم والضحك.

<<  <  ج: ص:  >  >>