للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجلست خلف اثنين منهم، وإذا برجل قد دخل من باب المدرسة، فلما رآه المدرس عبس وجهه وقام إليه يتلقاه، وانقبض الجماعة بأسرهم، فقلت للذي أنا وراء ظهره: يا أخي ما للجماعة؟ قال: هذا الذي دخل جدلي خلافي لا يطاق، إذا جاء لا يبقى للشيخ معه كلام، لا يلاطفه ولا يستطيع أحد مجاراته. فلما تلقاه الشيخ أجلسه في مكانه.

فلما قعد استفتح وألقى مسألة خلافية عقدة، فلما استكمل إيرادها فُتِحَ عليَّ بحفظ سؤاله والجواب عنه، فزاحمت ودخلت بين اثنين وانطلق لساني ونصبت سؤاله وما غيرت منه شيئا. وهذا ترتيب المناظرين إعادة السؤال، ثم أجبته بما فتح اللَّه عليَّ، ولم أكن قرأت علم الخلاف ولا ناظرت، فتعجب المدرس مني، وبهت الجماعة من أمري، واستعظموا ذلك، فقال المناظر للمدرس: هذا الفقيه (١) من أين لكم؟ قال: ما رأيناه إلا في هذه الساعة! قال: لمثل هذا بُنيت المدارس، ففرح المدرس الذي كان في حلقته من إجابة هذا المناظر، ثم قال المدرس لي: ما اسمك؟ فذكرت له اسمي، ففال: قد ولَّيْتكُ الإعادة، ثم قام فقمت معه، وقامت الجماعة. فقال: يا فقيه عادتنا إذا استقدمنا معيدا نوصله حال توليته إلى منزله.

فلما خرجنا من المدرسة قصد أن يمشي هو والجماعة معي، فسألته أن يخلي عن ذلك، فقبل ورجع، فلما جئت إلى الشيخ قال: يا فضولي، لأي شيء منعته أن يفعل عادته ويوصلك إلى منزلك؟ قلت: يا سيدي حملا عن خاطرك، وبقيت معيدا بالمدرسة إلى أن توفي الشيخ فدفن بظاهر بيت المقدس = .


= فجلس فيها وإلا وراءهم. عن أبي واقد الليثي، وفيه: "أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول اللَّه وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفها" قال النووي: فيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد، واستحباب دخولها ومجالسة أهلها، وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعا بينا، ويتأدب بأدبه، وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها، وإلا جلس وراءهم، وفيه الثناء على من فعل جميلا، فإنه أثنى على الاثنين. [النووي في شرح مسلم (١٤/ ١٣٣،١٣٢) طبعة دار الكتب العلمية].
(١) الفقه: هو الفهم لما ظهر أو خفي، قولا كان أو غير قول، قال في القاموس المحيط: الفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفي المصباح المنير: الفقه فهم الشيء، قال ابن فارس: وكل علم بشيء فهو فقه. ومعنى الفقه عند الفقهاء في معنيين: أحدهما: حفظ طائفة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة بالكتاب والسنة، وما استنبط منها، فاسم الفقيه ليس خاصا بالمجتهد كما هو عند الأصوليين، بل يتناول المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب، ومجتهد المذهب، ومن هو في أهل التخريج وأصحاب الوجوه. وثانيهما: الذي يطلق عليه اسم الفقيه هو مجموعة هذه الأحكام والسائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>