للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ندور فيها مررنا بقصر يعمَّر، وإذا شاب جالس ما رأيت أحسن وجها منه، فإذا هو يأمر ببناء القصر ويقول افعلوا واصنعوا، فقال لي مالك: ما ترى إلى هذا الشاب وحسن وجهه وحرصه على هذا البناء؟ ما أحوجني أن أسأل اللَّه ربي أن يُخَلِّصَه ولعله يجعله من شباب الجنة، يا جعفر ادخل بنا إليه، قال جعفر فدخلنا وسلمنا عليه فرد السلام ولم يعرف مالكا، فلما عرفه قام إليه فقال: ألك حاجة يا مالك: فقال: كم تريد أن تنفق على هذا القصر؟ قال: مائة ألف درهم. قال: ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه وأضمن لك على اللَّه تعالى قصرا خيرا من هذا القصر بولدانه وخدمه وحشمه (١) من ياقوتة حمراء مرصع بالجوهر، ترابه الزعفران، وبلاطه المسك الأذفر، أفسح من قصرك هذا، لم تمسه يد ولم يبنه بان؟ قال له الجليل كن فكان؟ قال له: يا مالك فأجلني الليلة وبكر عليَّ غدا، فقال: نعم. قال جعفر: فبات مالك وهو يفكر في أمر الشاب، فلما كان وقت السحر دعا فأكثر من الدعاء.

فلما أصبحنا غدونا، وإذا بالشاب جالس، فلما عاين مالك هش إليه ثم قال له: ما تقول فيما قلت بالأمس؟ قال: تفعل؟ قلت: نعم، فدعا بدواة وقرطاس ثم كتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان ابن فلان: أني ضمنت لك على اللَّه تعالى قصرا بدل قصرك بصفته كما وصفت والزيادة على اللَّه تعالى، واشتريت بهذا المال قصرا في الجنة أفسح من قصرك في ظل ظليل، بقرب العزيز الجليل.

ثم طوى الكتاب فدفعه إلى الشاب، وحمل المال، فما أمسى مالك حتى ما بقي قرى ليله، وما أتى على الشاب أربعون يوما حتى وجد مالك كتابا موضوعا في المحراب عندما انفتل من صلاة الغداة، فأخذه وأبصره، فإذا في ظهره مكتوب بلا مداد: هذه براءة من اللَّه العزيز الحكيم لمالك بن دينار، وفَّيْنا للشاب القصر الذي ضمنت له وزيادة سبعين ضعفا.

قال: فبقي مالك متعجبا، وأخذ الكتاب، فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب، فإذا اللباس مسود والبكاء في الدار، فقلنا ما فعل الشاب، فقالوا مات بالأمس، وأحضرنا الغاسل، فقلنا: أنت غسلته؟ قال: نعم، قال مالك: فحدثنا كيف صنعت؟ قال: قال لي قبل الموت: إذا أنا مت وكفنتني اجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني. فجعلته


= يكون فيها حجارة ترمينا بها، وكان يقول: ما بقي لأحد رفيق يساعده على عمل الآخرة، إنما هم يفسدون على المرء قلبه.
(١) الحشم: حشم الرجل: خاصته، الذين يغضبون لغضبه ولما يصيبه من مكروه من عبيد أو أهل أو جيرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>