للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فصاح صيحة كصيحته الأولى، ثم قال: من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي، أنت لي يا مولاي إليك منقلبي، ثم خر ميتًا.

فخرجت إليَّ جارية عليها مدرعة من صوف وخمار من صوف قد ذهب السجود بجبهتها وأنفها، واصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها فقالت: واللَّه يا حادي قلوب العارفين ومثير أشجان عليل المحزونين لا ينسى لك هذا المقام من رب العالمين.

هذا الشيخ والدي مبتلي بالسقم منذ عشرين سنة، صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وكان يتمناك على اللَّه ويقول: حضرت مجلس أبي عامر، فأحيى موات قلبي وطرد وسن نومي، وإن سمعته ثانيًا قتلني، فجزاك اللَّه من واعظ خيرًا، ومتعك من حكمتك بما أعطاك.

ثم أكبت على أبيها تقبل بين عينيه وتبكي وتقول: واأبتاه، يا من أعماه البكاء على ذنبه، يا من قتله وعيد ربه، ثم علا البكاء والاستغفار والدعاء والنحيب وجعلت تقول: يا حليف الحرقة والبكاء، يا جليس الابتهال والدعاء، يا صريع المذكرين والخطباء.

يا قتيل الوعاظ والحكماء.

قال أبو عامر: فأجبتها فقلت: أيتها الباكية الحيراء، والنادبة الثكلاء، إن أباك نحبه قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل ما عمل، وعليه يحصى في كتاب عند ربه ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: ٥٢] فمحسن فله الزلفى، ومسيء فوارد دار من أساء.

فصاحت الجارية وجعلت ترشح عرقًا، ثم ماتت.

فخرجت مبادرًا إلى مسجد المصطفى وفزعت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار حتى كان عند العصر، فجاءني غلام أسود يؤذنني بجنازتهما وقال: أحضر للصلاة عليهما ودفنهما.

فحضرت وسألت عنهما فقيل لي: هما من ولد الحسن والحسين بن علي بن أبي طالب (١)، فما زلت جزعًا مما جنيت عليهما حتى رأيتهما في المنام عليهما


(١) رواه الترمذي في سننه (٣٧٦٨) كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه : "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروي البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته عن ابن عمر: سمعت رسول اللَّه يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا".

<<  <  ج: ص:  >  >>