للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فإن الناس لا يكتالون الماء، ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين لا طولهما، ولا عرضهما، ولا عمقهما! فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب، وتكليف ما لا يطاق؟ فإن قيل: يستظهر حتى يغلب على ظنه أنه قلتان. قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية فإنها مضبوطة، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، كعدد الجلدات، ونصب الزكوات، وعدد الركعات، وسائر الحدود الشرعية.

الخامس: أن خواص العلماء إلى اليوم لم تستقر لهم قدم على قول واحد في القلتين، فمن قائل: ألف رطل بالعراقي، ومن قائل: ستمائة رطل، ومن قائل: خمسمائة، ومن قائل: أربعمائة، وأعجب من هذا جعل هذا المقدار تحديدًا! فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قدر القلتين، واضطربت أقوالهم في ذلك، فما الظن بسائر الأمة! ومعلوم أن الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها.

السادس: أن المحددين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدًّا:

منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب تنجس وإذا بال فيه لم ينجسه!.

ومنها: أن الشعرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قلتين إلا رطلًا مثلًا أن ينجس الماء، ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجسه ... وكذلك ميتة كاملة تقع في قلتين لا تنجسها، وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلًا فتنجسها! إلى غير ذلك من اللوازم التي يدل بطلانها على بطلان ملزوماتها.

الوجه الثالث: أنهم قالوا: إن المفهوم حجة، وتخصيصه بهذا الوصف والعدد لا بد له من فائدة، وهي نفي الحكم عما عدا المنطوق، ثم إن تعليله وتعليق الحكم بهذا الوصف المناسب يدل على أنه علة له، فينتفي الحكم بانتفائها، فإن كان المفهوم مفهوم شرط فهو قوي؛ لأن المشروط عدم عند عدم شرطه، وإلا لم يكن شرطًا له.

وهذا مسلَّم في كون المفهوم حجة.

لكن قالوا: يقدم على العموم لأن دلالته خاصة، فلو قدم العموم عليه بطلت دلالته جملة، وإذا خص به العموم عمل بالعموم فيما عدا المفهوم، والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما، كيف وقد تأيد المفهوم بحديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقته، ويحديث النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها عند القيام من نوم الليل.

وهذا أيضًا من حيث النظر مسلم، لكن في هذه المسألة يقدم العموم على هذا المفهوم؛ لأن العموم موافق للقياس الصحيح [قال في إعلام الموقعين (١/ ٣٤٣): "ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا على الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه، وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس، وتركتم قياسًا أصح منه، وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة، فقياس الوارد على المورود مع استوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف: أصح من قياس مائة رطل ماء وقع فيه شعرة كلب، على مائة رطل خالطها مثلها بولًا وعذرة حتى غيَّرها"

<<  <  ج: ص:  >  >>