للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولأنه موافق لعمل أهل المدينة قديمًا وحديثًا، فإنه لا يعرف عن أحد منهم أنه حدد الماء بقلتين، وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقلي خلفًا عن سلف، فجرى مجرى نقلهم الصاع والمد والأجناس، وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وهذا هو الصحيح المحتج به من إجماعهم، دون ما طريقه الاجتهاد والاستدلال، فإنهم وغيرهم فيه سواء، وربما يرجح غيرهم عليهم، ويرجحوا هم على غيرهم.

فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمعنا من الترجيح ما يقابله، وهو أن المفهوم هنا قد تأيد بالأحاديث السابق ذكرها، فإن هذه الأحاديث تدل على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء وإن لم يتغير. قلنا: هذه الأحاديث لا حجة لكم فيها، وسيأتي الرد عليكم فيها مستقلًا.

قالوا أيضًا بعموم المفهوم؛ لأنه إنما دل على نفي الحكم عما عدا المنطوق بطريق سكوته عنه، ومعلوم أن نسبة المسكوت إلى جميع الصور واحدة، فلا يجوز نفي الحكم عن بعضها دون بعض للتحكم، ولا إثبات حكم المنطوق لها لإبطال فائدة التخصيص، فتعين بقيد عن جميعها.

وقال شيخ الإسلام (٢٠/ ٥٢٥) بأن حديث القلتين: "يدل على أن الموجب لنجاسته كون الخبث فيه محمولًا، فمتى كان مستهلكًا فيه لم يكن محمولًا، فمنطوق الحديث وتعليله لم يدل على ذلك، وأما تخصيص القلتين بالذكر، فإنهم سألوه عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، وذلك الماء الكثير في العادة، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن مثل ذلك لا يكون فيه خبث في العادة؛ بخلاف القليل فإنه قد يحمل الخبث، وقد لا يحمله، فإن الكثرة تعين على إحالة الخبث إلى طبعه، والمفهوم لا يجب فيه العموم: فليس إذا كان القلتان لا تحمل الخبث يلزم أن ما دونها يلزمه مطلقًا، على أن التخصيص وقع جوابًا لأناس سألوه عن مياه معينة، فقد يكون التخصيص لأن هذه كثيرة لا تحمل الخبث والقلتان كثير، ولا يلزم أن يكون الكثير إلا قلتين، وإلا فلو كان هذا حدًا فاصلًا بين الحلال والحرام لذكره ابتداء، ولأن الحدود الشرعية تكون معروفة كنصاب الذهب والمعشرات ونحو ذلك، والماء الذي تقع فيه النجاسة لا يعلم كيله إلا خرصًا، ولا يمكن كيله في العادة، فكيف يفصل بين الحلال والحرام بما يتعذر معرفته على غالب الناس في غالب الأوقات، وقد أطلق في غير حديث قوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء"، و"الماء لا يجنب"، ولم يقدِّره مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ومنطوق هذا الحديث يوافق تلك، ومفهومه إنما يدل عند من يقول بدلالة المفهوم إذا لم يكن هناك سبب يوجب التخصيص بالذكر لا الاختصاص بالحكم، وهذا لا يعلم هنا".

قال ابن القيم: "وأما دعواكم أن المفهوم عام في جميع الصور المسكوت عنها، فدعوى لا دليل عليها، فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص والتعليل كما تقدم.

ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة،؛ لأنها

<<  <  ج: ص:  >  >>