للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المسجد، فابن عباس قد ترجم هذه الواقعة بقوله: الطواف صلاة؛ إلا أن الله أباح فيه الكلام؛ يعني: بذلك إباحة الكلام في الطواف حسب، لا أن الطواف في أحكامه كالصلاة، ولم يستثن من أحكامها سوى الكلام، وهذا ما يظهر لكل عاقل، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، والله أعلم.

ومثل: اجتهاده بتعزير من أتى حائضًا بأن يتصدق بدينار أو بنصف دينار [راجع: فضل الرحيم الودود (٣/ ٢٥٤/ ٢٦٤)].

وهنا يمكن أن يقال مثل ذلك، بأنه قد خفي على ابن عباس السبب المقتضي للجمع، بينما أدرك ذلك الصحابة، فلم يشكل عليهم هذا الجمع، ولم يعتنوا بنقله إلينا، بينما ابن عباس -لصغر سنه إذ ذاك- لم يظهر له وجه الجمع، فقال ما قال، ويؤكد ذلك أن أبا هريرة لم يحدث بذلك حتى سأله عنه عبد الله بن شقيق، لكونه من مسائل العلم التي لا تخفى، مما ينقله العامة عن العامة، ولا تحتاج لنقل الخاصة، والله أعلم.

فإن قيل: لم ينفرد ابن عباس بهذا الحديث؛ ففي رواية عبد الله بن شقيق؛ أنه قال: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالته.

فيقال: نعم؛ اتفق ابن عباس وأبو هريرة على نقل واقعة حال، مفادها أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع بالمدينة الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، وليس فيه بيان كونه جمع تقديم أم تأخير، ولا فيه بيان وجه هذا الجمع والداعي إليه، وظاهر الواقعة أنها لم تقع إلا مرة واحدة، فكيف يقبل هذا النقل المجرد عن سببه، مع كونه ناقلًا عن الأصل، وهو إقامة الصلاة في أوقاتها المشروعة، فهل يقبل في ذلك مجرد اجتهاد ابن عباس، بقوله: أراد ألا يحرج أمته، ثم هل ما نفاه ابن عباس هنا بقوله: من غير خوف ولا سفر؛ يعني: نفي ما عدا ذلك من أسباب الجمع؟

كذلك فإن هذا الحديث يمكن التمثيل به للقاعدة المشهورة: وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال، قال الزركشي في البحر المحيط (٣/ ١٥٤) أثناء مناقشته لهذه القاعدة وعلاقتها بالقاعدة الأخرى المعارضة لها: ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال [وقد سبق في مقام آخر أن حررت القول: بأن القاعدة الأولى تختص بالأفعال، وأما الثانية فتختص بالأقوال]، قال الزركشي: "المراد بسقوط الاستدلال في وقائع الأعيان؛ إنما هو بالنسبة إلى العموم إلى أفراد الواقعة، لا سقوطُه مطلقًا؛ فإن التمسك بها في صورةٍ ما مما يُحتمل وقوعُها عليه غيرُ ممتنع، وهكذا الحديث: أنه -عَلَيْهِ السَّلَام- جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير مرض [كذا، ولعله سبق قلم من المصنف، والصحيح: خوف] ولا سفر، فإن هذا يحتمل أنه كان في مطر، وأنه كان في مرض، ولا عموم له في جميع الأحوال، فلهذا حملوه على البعض، وهو المطر؛ لمرجِّح للتعيين".

كذلك فإن فعل ابن عباس الذي رواه عنه عبد الله بن شقيق؛ لما احتج بفعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

<<  <  ج: ص:  >  >>