التعبير ب {كُتِبَ} ولم يأت ب «كَتبَ» ، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال.
لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم:{هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} . ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟ لا؛ فقد كان فيهم من ينطبق عليه قول الشاعر:
إن الذي جعل الحقيقة علقماً ... لم يخل من أهل الحقيقة جيلاً
لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول:«إني قليل» ؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى.
وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله:{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً} . كلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى:{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}[البقرة: ٢٤٩]
أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع، ورآها غيرك، أعجبتك أنت وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال مِلْكُ من هي، وهكذا تعرف أن العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب.