يقول لك إنسان ما «هذه محاباة» ، لذلك نقول لمن يقول ذلك: الزم الدقة، ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة، فمثلاً إذا أردنا أن نختار أحداً من الناس لمنصب كبير، فنحن نختار عدداً من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق عليهم المواصفات ونقول:«هذا يصلح، وهذا يصلح، وهذا يصلح» و «هذا فيه ميزات عن ذاك» وهكذا، فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل، ولكن إن اخترنا واحداً لأنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.
إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة، وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية، ولكن لهوى في نفسك. فمثلا هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير، ومعك سائق القارب البخاري، وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري، وجلس مكان السائق وأخذ يسوق. ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت السائق أن يتولى القيادة، وهنا قد يصرخ الولد، فهل هذه محاباة منك للسائق؟ لا، فلو كانت محاباة لكانت لابنك، لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير. إذن إذا نظرت إلى حيثية الإيثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل، ولكن في المحاباة يكون الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
وحينما قال الحق:{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جاء بعدها بالقول الكريم: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} وأعطانا نماذج التفضيل فقال: {منهم من كلم الله} . وساعة تسمع {منهم من كلم الله} يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق:{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . ثم قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن