لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب، لاستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده، وينتهي احتياجه للمجتمع الإنساني. فكأن الله حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض لا التحام فضل، ولكن التحام تعايش ضروري؛ لأن واحداً يريد ما ينتجه الآخر بموهبته، والآخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه. ولذلك فالناس بخير ما تباينوا؛ لأن كلا منهم يحتاج إلى الآخر.
ولذلك لا نجد أي تقدم في مجتمع إلا إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة. أما حين يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلابد أن يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما يكون كل واحد في حاجة لموهبة الآخر، فهم يتعايشون؛ لأن الحياة لا تسير إلا بالكل، ولذلك إذا استوت جماعة في المواهب فلا بد أن يتفانوا لأنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه، لكن لا أحد في المواهب المتكاملة يقول: لماذا يكون فلان أفضل مني، لأنه يعرف أنه من الضروري أن يوجد المهندس والطبيب والصانع، ولذلك تجد الوجود منظما بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد قاعدة ويُوجد قمة، فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة. ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لأن الأمر في هذه الحالة سَيَجِّدُ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ولا ترتكز على شيء، ولذلك فمن الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحداً قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقا، ولا تصطرع معه فتسقطوا جميعا، فلابد من التفاضل كي ينشأ التكامل.
والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضا اجتماعيا وعرضا اقتصاديا؛ ليبين لنا أن أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي، لماذا؟ لأن الإنسان مشغول أولا باستبقاء حياته، ثم باستبقاء نوعه. واستبقاء حياة الإنسان بالقوت، واستبقاء نوعه بالزواج. واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة، والحق يحترم ثمرتها، وعندما يريد الحق أن يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول:{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً}[البقرة: ٢٤٥]