ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقَّدوا ناراً: كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعاً ضد هذا الدين ليضربوه عن قَوْس واحدة، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم.
حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافةَ إنْ ينقضَّ عليهم أعداؤهم، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه: أتروْنَ أنَّا نعيش حتى نأمن ونطمئن ولانبيت في السلاح ونصبح فيه، ولا ننخشى إلا الله؟ يعني: أهناك أمل في هذه الغاية؟
وآخر يذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون.؟ ألاَ يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين؟
فيقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلسان الواثق من وعد ربه، وليس كلاماً قد يُكذَّب فيما بعد:«لا تصبرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتبياً ليست فيه حديدة» يعني: في الملأ الواسع، والاحتباء جلسة المستريح الهانىء، والحديدة كناية عن السلاح.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها» .
ومعنى «إن الله زوى لي الأرض» معلوم أن للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أمّا الأرض ذاتها فواسعة، فُزويَتْ الأرض لرسول الله يعني: جُمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلها.