بعد أن بيَّن الدلائل الواضحة على واحديته في الكون، وأحديته في ذاته سبحانه، وبيَّن الأدلة الكونية بكُلِّ صورها برهاناً وحجةً، وضرب أمثالاً وتفصيلاً بعد ذلك قال: سأقول لكم أنكم أصبحتم مختارين أي: خلقتُ فيكم الاختيار في التكليف حتى لا أقهر أحداً على الإيمان بي.
وخَلْق الاختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلُّ على أن الله تعالى لا يريد من عباده قوالب تأتمر بأمر القهر، ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الأحد.
وإلا فكان من الممكن أن يخلقهم جميعاً مهتدين، وأنْ يخلقهم على هيئة لا تتمكّن من الكفر، وتسير إلى الطاعة مرغمة، كما قال سبحانه حكاية عن السماء والأرض:{أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}[فصلت: ١١] وذلك يُفسِّر لنا أمانة خَلْق الاختيار في الناس.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال:{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ... }[الأحزاب: ٧٢] والإباء هنا ليس إباء تكبُّر على مراد الله، إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي، فقالوا: لا لحمل الأمانة؛ لأننا لا نأمن أنفسنا ولا نضمنها عند الأداء.
والإنسان كذلك ابن أغيار، فقد يحمل الأمانة، ويضمن أداءها في وقت التحمل، لكنه لا يضمن نفسه عند الأداء، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بمَنْ يقبل الأمانة، ويرحب بها عند التحمل، ثم تطرأ عليه من أحداث الحياة ما يضطره لأنْ يمدَّ يده إلى هذه الأمانة وإنْ كان في نيته الأداء، لكن يأتي وقته فلا يستطيع، وآخر يُقدِّر هذه المسئولية ويرفض تحمل الأمانة، وهذا هو العاقل الذي يُقدِّر الظروف وتغيّر الأحوال.