ومعلوم أن الأمانة لا تُوثَّق، فإنْ كتبتَ وشهد عليها فإنها لم تَعُدْ أمانة، فالأمانة إذن مردُّها لاختيار المؤتمن إنْ شاء أقرَّ بها، وإنْ شاء أنكرها.
فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والأرض والجبال {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا. .}[الأحزاب: ٧٢] لأنهم يُقدِّرون مسئوليتها، أما الإنسان فقد تعرَّض لحملها وقال: عندي عقل أفكر به، وأختار بين البدائل، وسوف أؤدي، فضمن وقت التحمل، لكنهن لا يضمن وقت الأداء، فظلم نفسه وجهل حقائق الأمور.
{وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب: ٧٢] ظلوماً لنفسه، جهولاً بما يمكن أنْ يطرأ عليه من الأغيار.
وما دام الإنسان ابن أغيار، فإنه لا يثبت على حال؛ لذلك قلنا: إذا صعد الإنسان الجبل إلى قمته وهو ابن أغيار فليس أمامه إلا أنْ ينزل، والعقلاء يخافون أنْ تتم لهم النعمة؛ لأنه ليس بعد التمام إلا النقصان، كما قال الشاعر:
فإذا قلت: لماذا خلق الله الاختيار في الإنسان ولم يخلقه في الأجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان؟ نقول: كُنْ دقيقاً، وافهم أنها أيضاً خُيّرت بقوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ ... }[الأحزاب: ٧٢] .
إذن: هذه الأجناس أيضاً خُيِّرت، لكنها اختارت اختياراً واحداً يكفيها كل الاختيارات، فقالت: نريد يا رب أنْ نكون مقهورين لكل ما تريد.