الإسلام قد جاء بكل الحق، فلو كان الإسلام قد أصدر حكما واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول الله أو المنصف منهم الذي تراوده فكرة الإيمان بالإسلام، لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود: نحن نفكر في أن نؤمن بالإسلام فكيف يهاجمنا الإسلام هذه المهاجمة؟ لكن الإسلام جاء لينصف فيعطي كل ذي حق حقه.
وهؤلاء هم الذين يؤرخ الله لهم بالقول:{مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وتلك شهادة على صدق اليقين من هؤلاء، أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلاء هم الذين جاء فيهم القول الحكيم:{وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت عليهم المادة فلا يرد الإنسان منهم ما عليه إلا بعد الملاحقة والمطاردة، وهكذا يبلغنا القرآن التاريخ بصدق.
والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق، ولا يريد الله من عباده إلا أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق.
وأكرر هنا مرة أخرى، إن كلمة «الأمانة» ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية ب «على» ، ومرة أخرى وهي متعدية بالباء، لأن الباء تأتي في اللغة لإلصاق شيء بشيء آخر، فكأنك إذا اؤتمنت أيها المسلم فلا بد أن تلتصق بالأمانة حتى تؤديها، وكذلك جاءت الأمانة متعدية ب «على» ، أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه.
فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثلا فلا تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا المبلغ، بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة. فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة الشيء الذي تختلسه من الأمانة، بل قارن هذا الشيء بالأمانة فستجد أن كفة الأمانة هي الراجحة.
والذين استباحوا خيانة الأمانة من أهل الكتاب، إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نال الشهرة بالأمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها. وعميت أبصارهم، إن الدين الحق لا يفرق في أداء الأمانة بين صنف من البشر، وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء الأمانة هو تشريع من عند أنفسهم، وليس من الرب المتولي شئون خلقه جميعا، ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا الأميين