للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإنسانية: إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل، فتتحرك ملكة أخرى، وحين يقول الحق: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه.

إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه، فإنه يحرك معطيا على موجود معه، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} . فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون - سبحانه - قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة. وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له.

إنه رب يحكم كونه، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا. {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى،} إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم، وهو لا يذكر بعضا من الخلق، وينسى بعضا آخر، فهو قد كتب العدم لحكمة، وأعطى النعمة لحكمة.

لقد جعل الفقير عبرة، ولكنه لم يتركه، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا، فيعطيه الأقوياء، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ.

إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} هذا القول قد خدم قضية سبقتها، وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به، ما دام كافرا، إنها نفقة مرفوضة لا اعتبار لها، إنها هدر. ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا، ثم يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة

<<  <  ج: ص:  >  >>